هل تستعصي فرنسا على الحكم؟

الأربعاء 12 أبريل 2017

"لمع نجم المركزية في فرنسا لفترات قصيرة وسريعة فقط، ولم تنجح أبداً في التحوّل إلى عنصر رئيسي في المشهد السياسي".
"من الخطأ أن يركز المستثمرون الأجانب على الانتخابات الرئاسية، فالانتخابات التشريعية أكثر أهمية"
هل تعيش فرنسا على شفير الانفلات من قبضة الحكم؟
للمرة الأولى منذ عام 1981، تثير الانتخابات الرئاسية الفرنسية مثل هذا القلق الكبير لدى المستثمرين الأجانب؛ ووصل مؤشر عدم اليقين بالسياسة الاقتصادية في فرنسا إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، فيما قفز فرق عائدات السندات الفرنسية إلى 60 نقطة أساس (كان حوالي 20 نقطة أساس قبل بضعة أشهر فقط).
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والفوز غير المتوقع لترامب في عام 2016، يخشى المستثمرون من نجاح مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية، في تحدي صناديق الاقتراع وتحقيق المستحيل!
الانتخابات الرئاسية في عام 2017 تتمتع بخواصّ فريدة من نوعها في التاريخ الفرنسي المعاصر
في العديد من النواحي، تعتبر الانتخابات الرئاسية فريدة من نوعها في التاريخ الفرنسي المعاصر؛ فهذه هي المرة الأولى التي:
لا يمتلك فيها الرئيس الحالي فرصة تجديد ولايته لفترة ثانية جرّاء الاستطلاعات السيئة للآراء، والضغوطات التي يواجهها من داخل حزبه للانسحاب.
لا يعتبر فيها الحزبان الحاكمان التقليديان (الاشتراكي والجمهوريون) مؤهلين تلقائياً لدخول الجولة الثانية وفقاً لاستطلاعات الرأي.
يمتلك التوجّه الوسطي – الذي يمثله إيمانويل ماكرون – فرصة تحقيق الفوز بمنصب الرئاسة (حوالي 25% من نوايا التصويت في الجولة الأولى). ويعود تاريخ آخر مرة وقعت فيها مثل هذه الحالة إلى عام 1974 عند فوز فاليري جيسكار ديستان.
يمثل اليمين واليسار المتطرفان حوالي 40% من نوايا التصويت في الجولة الأولى مقابل نحو 34% للحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريون. وفي الوقت الراهن، تتربّع الشعبوية على رأس تصنيف ’الأحزاب‘ في فرنسا.
تبدو توجّهات اثنين من المرشحين (فرانسوا أسلينو من حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، الذي يتوقع أن يحصل على 1% من الأصوات؛ ومارين لوبان، من حزب الجبهة الوطنية) واضحة لصالح خروج فرنسا من عضوية الاتحاد الأوروبي.
انعطاف المجتمع الفرنسي نحو اليمين
في عام 2002، فاجأ جان ماري لوبان، الذي كان آنذاك مرشح حزب الجبهة الوطنية، الجميع بالتأهل للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بنيله نسبة 16.86% من الأصوات (متفوقاً على مرشح الحزب الاشتراكي). ولم يكن لديه في ذلك الوقت أي فرصة ليصبح رئيساً، وفشل بالفعل في الجولة الثانية حيث حقق نسبة 17.79% من الأصوات.
وبعد خمس عشرة عام، نجحت ابنته مارين لوبان بتحقيق تفوق واضح في الجولة الأولى (مع نحو 27% من الأصوات المتوقعة) واحتمال حصولها على ما يصل إلى 44% من الأصوات في الجولة الثانية. وبالنظر إلى أكثر التوقعات سخاء لأداء لوبان في الجولة الثانية، نجد أن زعيمة حزب الجبهة الوطنية ما زالت بحاجة لاستقطاب 2-3 ملايين صوتاً خجولاً من إجمالي الأصوات لتحقيق الفوز؛ وهو أمر لا يسهل تحقيقه!
ومع ذلك، فإن التقدم الذي أحرزته لوبان في السنوات الأخيرة أمر مثير للإعجاب، ويؤكد على ازدياد شعبيتها في المجتمع الفرنسي – أو ما يمكن اعتباره ’لوبانيّة‘ المجتمع الفرنسي. ويمكن تفسير هذه الظاهرة بستة عوامل رئيسية:
’التطهير‘، أو التخلّص من أكثر العناصر اليمينية المتطرفة في الحزب الذي أطلقته مارين لوبان وبلغ ذروته مع طرد جان ماري لوبان في عام 2015.
التحوّل الأيديولوجي من الرأسمالية إلى سيطرة الدولة والنزعة الحمائية.
حقيقة أن الحزب الاشتراكي لم يعد يمثل الطبقة العاملة؛ وفي ورقة مشهورة، دعت مؤسسة ’تيرا نوفا‘ البحثية المقرّبة من الحزب الاشتراكي إلى التخلي عن الطبقة العاملة والتركيز على الطبقة العليا وموظفي الخدمة المدنية.
نهاية استراتيجية الجناح اليميني التقليدي التي اعتمدها لفترة طويلة في تجنّب إجراء أي تسوية أو اتفاقات انتخابية مع حزب الجبة الوطنية. ومنذ عام 2007، اتخذ اليمين توجهاً واضح التطرّف (مثلاً، مع إنشاء ’وزارة الهوية الوطنية‘ بين عامي 2007-2010) بهدف إغراء الناخبين في أقصى اليمين. وحققت الاستراتيجية الجديدة نجاحاً كبيراً، ولكنها لم تساعد في نشر أفكار الجبهة الوطنية في المجتمع الفرنسي.
ارتفاع نسبة هجرة اليد العاملة والهجرة غير الشرعية وأزمة المهاجرين.
تصوّر ارتفاع معدل عدم المساواة جرّاء العولمة وتراجع النشاط الصناعي في الدولة. واتضح بطلان هذا التصوّر عبر الأرقام التي أظهرت انكماش مؤشر جيني الفرنسي إلى 0.29 في السنوات الأخيرة. ومن وجهة نظر أطول أجلاً، تراجعت حصة إجمالي الدخل الذي يحتفظ به أغنى 1% من 40% في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين إلى حوالي 8% الآن.
الاستجابة الفرنسية التقليدية للأزمة
منذ عام 1958، اتجه القسم الأكبر من الوسطيين للانضمام إلى الائتلافات اليمينية بحكم الضرورة. وبنظرة أطول في التاريخ الفرنسي، نرى أن الوسطية جاءت وفي كثير من الأحيان الاستجابة الأمثل للأزمات.
إنها حركة سياسية يمكن تتبع تاريخها إلى بليز باسكال وميشيل دي مونتين، ومجموعة سيلون (1910-1894). وشهدت أيام مجدها خلال الجمهورية الخامسة في منتصف سبعينيات القرن العشرين عندما حاولت تقديم رد سياسي على أزمة النفط في عام 1973 وما أعقب ذلك من ارتفاع في البطالة. وتتبع حركة ’إلى الأمام‘ التي أسسها إيمانويل ماكرون هذا الخط وتسعى للاستجابة إلى الناخبين المتطلعين إلى وضع حد للانقسام الموروث بين اليمين واليسار من الثورة، فضلاً عن الانقسام الذي طال أمده بين الجيروندستن والياكوبينز.
وفي فرنسا، ظهرت الوسطية في فترات قصيرة وسريعة لكنها لم تنجح أبداً في التحول إلى مكوّن أساسي للمشهد السياسي. وارتبطت المشكلة الرئيسية للحركة بحقيقة أن الناخبين الوسطيين كانوا من الناخبين المتقلبين. ووفقاً لدراسة نشرها ’المعهد الفرنسي لسبر الآراء‘ (IFOP) في نهاية فبراير، أشار 36% فقط من ناخبي إيمانويل ماكرون إلى أنهم متأكدون من أصواتهم مقابل 58% بالنسبة لـ بونوا هامون (الحزب الاشتراكي)، و62% لـ جان لوك ميلينشون (الجناح اليساري المتطرف)، و70% لـ فرانسوا فيون (الجمهوريون)، و80% لـ مارين لوبان.
ونظراً للتذبذب الشديد بين ناخبي ماكرون، لا يمكننا استبعاد وقوع مفاجأة في الدقيقة الأخيرة من الجولة الأولى لصالح فيون أو حتى هامون ... ولكن الفرص تبقى منخفضة جداً.
في الحقيقة، لا تمثّل الانتخابات الرئاسية الأهمية الأولى ...
... إنها الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في الفترة بين 11-18 يونيو. النظام في فرنسا شبه رئاسي، ولا يتمتع فيه رئيس الجمهورية بالقوة الكاملة، وينبغي عليه التعامل مع البرلمان الذي يمسك العديد من مفاصل القوة الموازية. وفي حقيقة الأمر، من الخطأ أن يركز المستثمرون الأجانب على الانتخابات الرئاسية: فالانتخابات التشريعية أكثر أهمية. ونجد نتيجتين محتملتين هنا هما:
فوز مارين لوبان بالسباق الرئاسي، ولكنها مجرّدة من القوى الحقيقية
سيمنع نظام الانتخابات الفرنسي (أي نظام الأغلبية الفردية في جولتين، وليس التصويت النسبي) حزب الجبهة الوطنية من الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التشريعية (يتطلب ذلك الحصول على 289 مقعداً على الأقل مقابل مقعدين في الوقت الحالي). وبالتالي، ستعيش البلاد في حالة من ’التعايش‘. وستكون هذه المرة الرابعة منذ عام 1958، وأول مرة منذ الاستفتاء الدستوري عام 2000 بشأن تجنب التعايش قدر المستطاع عبر مواءمة مدة الولاية الرئاسية مع ولاية النواب.
ومن شأن التعايش أن يمنع حزب الجبهة الوطنية من تنظيم استفتاء حول عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما تعتزم لوبان القيام به بعد التفاوض على ’اتفاق أفضل‘ مع بروكسل. وعلى الرغم من امتلاك الرئيس الفرنسي للحق الدستوري في إجراء مثل هذا الاستفتاء، إلا أن ذلك مرتبط إما باقتراح من الحكومة أو اقتراح مشترك من قبل الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.
وحتى في حال فوزها بالانتخابات، لن تكون مارين لوبان في موقع يخولها تنفيذ معظم خطط حزبها الاقتصادية والأوروبية. وستكون في موقف غير مريح كرئيس للجمهورية الثالثة محروم من القوى الحقيقية.
إلا أن فترات التعايش السابقة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تظهر قدرتها على الحفاظ على قيادتها فيما يخص المسائل الدفاعية (انطلاقاً من اعتبار الرئيس قائداً للقوات المسلحة) فضلاً عن الجبهة الدبلوماسية إذا منحتها الحكومة هذه الميزة؛ فضلاً عن القليل من النفوذ في السياسة الداخلية.
فوز إيمانويل ماكرون بالسباق الرئاسي، ولكنه يواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع أغلبيته الخاصة
يثير احتمال فوز إيمانويل ماكرون سؤالين مهمين: هل يتمتع بوضع يتيح له الحصول على أغلبية في البرلمان؟ إن كان الأمر كذلك، فهل سيمتلك أغلبية متشددة تدعمه أم سيواجه معارضة مستمرة (كما كان الحال مع فرانسوا هولاند والجناح اليساري للحزب الاشتراكي)؟
من المرجح أن ينجح ماكرون في تأمين الأغلبية استناداً إلى افتراض أن مرشحي ’إلى الأمام‘ سيفوزون بالعديد من المقاعد، وأن النواب الحاليين من الأحزاب الأخرى (الحزب الاشتراكي، واتحاد الديمقراطيين والمستقلين، والحركة الديمقراطية، ومناصروا ألان جوبيه) سينضمون إليه. ومع ذلك، قد يواجه صعوبات في العمل مع أغلبية غير متجانسة تتوزع بين الليبراليين والشيوعيين.
وتجلّت فكرة إيمانويل ماكرون الجيدة الأولى في مطالبة جميع مرشحيه بالتصويت لصالح حزمة من الإصلاحات الجوهرية، ولكنه اضطر للتخلي عنها لأن الدستور يمنع ذلك. ولا يمكنه الآن إلا أن يعتمد على الالتزام الأخلاقي بدعم المشاريع العامة مثل ’تحديث الاقتصاد‘.
وكما يقولون، ’الوفاء شيمة الأتقياء‘. وانتهى المطاف بمخاطرة ماكرون، بأن تكون رئاسته غير مكتملة بالمفاوضات البرلمانية التي لا نهاية لها، في العثور على أغلبية يمينية للمشاريع اليمينية، وأغلبية يسارية للمشاريع اليسارية مما من شأنه إبطاء وتيرة الإصلاحات، ويدفع نحو التنازلات. وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، كما كانت الحال في أسوأ لحظات الجمهورية الرابعة.
ليس المهم حقاً هو اسم الشخص الذي سيشغل منصب الرئيس. وحتى إن فازا، يبدو أن المرشحين سيواجهان مشاكل إما مع الحكم دون أغلبية، أو مع أغلبية غير متجانسة بشكل كبير.
وللمرة الأولى منذ عام 1958، يمكن أن يحقق أعضاء البرلمان عودة كبيرة، وهو أمر لا يعتبر مؤشراً إيجابياً بالنظر إلى التجارب السابقة في الجمهوريتين الثالثة والرابعة (1958-1871).
وفي النهاية، يمكن أن تكون فرنسا عصيّة على الحكم.

أخبار مرتبطة